×

البعد النووي في العلاقات الدولية

البعد النووي في العلاقات الدولية

Spread the love

اتهمت الولايات المتحدة روسيا باستخدام أكبر محطة للطاقة النووية في أوكرانيا « درعاً نووية » من خلال نشر قوات هناك، ما يمنع القوات الأوكرانية من الرد على إطلاق النار ويهدد بخطر وقوع حادثة نووي مروع. وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن الولايات المتحدة « قلقة للغاية » من أن محطة زابوريجيا للطاقة النووية، التي اتهمت روسيا بإطلاق قذائف بالقرب منها بشكل خطير أصبحت الآن قاعدة عسكرية روسية تستخدم لإطلاق النار على القوات الأوكرانية القريبة.أضاف بلينكين للصحافيين بعد محادثات في الأمم المتحدة في نيويورك،في شأن منع انتشار الأسلحة النووية، « بالطبع لا يمكن للأوكرانيين الرد خشية وقوع حادثة مروعة يتعلق بالمحطة النووية ». وقال إن تصرفات روسيا تجاوزت استخدام « درع بشرية »، واصفاً إياه بأنه « درع نووية ». وقال نائب وزير الخارجية الأوكراني ميكولا توتشيتسكي في محادثات نيويورك، « هناك حاجة إلى إجراءات قوية مشتركة لمنع وقوع كارثة نووية ». ودعا المجتمع الدولي إلى « إغلاق المجال الجوي » فوق محطات الطاقة النووية الأوكرانية بأنظمة دفاع جوي.

النظم السلطوية

ارتفعت وتيرة التوتر الدولي في الأسابيع الأخيرة على وطأة ثلاثة ملفات ترتبط بالسلاح النووي، وإن بدرجات متفاوتة، فقد ثار قلق واسع مع تلميحات موسكو الغامضة حيناً، والواضحة حيناً آخر، إلى أنها قد تستخدم السلاح النووي التكتيكي في أوكرانيا، فضلاً عن القلق المحيط بأمن محطات الطاقة النووية السلمية. تصاعد قلق آخر مع قيام كوريا الشمالية بتجربة صاروخية جديدة في تكرار لحال هذا الملف منذ عقود طويلة، وعلى صعيد ثالث يتواصل تعثر المفاوضات النووية الإيرانية، وترفع طهران من مستوى تخصيب اليورانيوم في ظل أزمة داخلية حادة فترتفع وتيرة القلق الغربي والإسرائيلي المستمر من هذا الملف الممتد التوتر حوله منذ ما يزيد على 16 عاماً. في الحقيقة، إن البعد النووي في العلاقات الدولية من أخطر وأعقد أبعاد الشؤون الدولية المعاصرة منذ تعرضت البشرية لكارثة ومحنة تفجيرات هيروشيما ونغازاكي في نهايات الحرب العالمية الثانية، والتي تعد وصمة عار في تاريخ البشرية المعاصر، والدليل الحي على المدى الذي يمكن أن يصبح فيه العلم مصدراً مخيفاً للتدمير والقسوة. وعلى رغم أن بعضهم قد يتصور أنه بسبب عدم الاستخدام الفعلي لهذا السلاح منذ ذلك الوقت، يمكن التعامل معه باهتمام أقل، فإنه يظل في الحقيقة أحد المحاور الرئيسة للصراع والعمل الدولي، بل ربما يكون المدخل الضروري لفهم كثير من تطورات العلاقات الدولية المعاصرة.

 الردع المتبادل

عندما انفردت الولايات المتحدة لسنوات قصيرة باليد العليا في احتكار السلاح النووي توزع القلق البشري ما بين هذا الاحتكار، وبين تعب واستنزاف طاقات العالم في الحرب العالمية الثانية ورغبة مخلصة من غالب الدول المتحاربة في وقف هذا الجنون، وكان العالم يقف على أطراف أصابعه كلما حدث توتر بين الكتلتين الغربية والشرقية بقيادة واشنطن وموسكو على التوالي، واللذين كانا حلفاء الأمس في الحرب العالمية الثانية، وهو تحالف منع التصعيد في البداية، ولكن لفترة وجيزة، ثم جاء النجاح السوفياتي في تحقيق الردع المتبادل بعد تطوير الصواريخ عابرة القارات القادرة على حمل الرؤوس النووية.

لم يهدأ التنافس والصراع بين الكتلتين في سلسلة متواصلة من الأزمات والصراعات التي كان أخطرها أزمة الصواريخ الكوبية، وبفضل مقدرة الردع النووي المتبادل تم احتواء هذه الأزمة ونزع فتيلها ليبدأ العالم في فهم أن الردع النووي أصبح السبب الأول في منع نشوب حرب عالمية ثالثة، بمعنى آخر أن أكبر تهديد للوجود البشري – أي السلاح النووي – أصبح هو السبب الرئيس في منع نشوب حرب عالمية، لأنه ببساطة يستطيع كل من الطرفين تدمير الطرف الآخر، ومساحات وشعوب عدة أخرى ستقع ضحية هذه المواجهة النووية المجنونة.

مع ذلك، اندفعت واشنطن وموسكو ومعهما الدول الثلاث الأخرى الكبرى، بريطانيا وفرنسا والصين، في سباق مرهق وأحمق لتعظيم ترسانتهم النووية، بحيث وصلنا إلى مرحلة القدرة على التدمير المتبادل سبع مرات، في حماقة كبرى ربما لم تعرفها البشرية من قبل، وخلال كل هذه السنوات لم يتوقف العالم عن القلق من شبح الحرب النووية، ومع أن كل الشواهد كانت تؤكد أن هذا الردع المتبادل قد حمى البشرية، وسمح بتطور مهم يتعلق بتوقيع القطبين الأميركي والسوفياتي عدداً من الاتفاقيات الخاصة بالحد من الأسلحة الاستراتيجية، وسمحت هذه الفترة كذلك بظهور حركة دولية رشيدة لتقنين ووضع ضوابط لمحاولة التعامل مع انتشار أسلحة الدمار الشامل.

واستمر ذلك حتى ثمانينيات القرن الماضي عندما اتبعت إدارة الرئيس ريغان استراتيجية هجومية جديدة سميت دعائياً « حرب الكواكب »، ومعناها تطوير واشنطن تقنية تدمير الصواريخ النووية الروسية في الجو، ومن ثم إنهاء أثر فكرة الردع، وعلى رغم أنه لم يثبت إمكانية وفاعلية هذه التقنية بشكل شامل، فقد رفعت من مستوى القلق الدولي، ومن ناحية أخرى كان استنزاف الاقتصاد السوفياتي في هذا السباق المكلف، ثم في حرب استنزاف أخرى بالوكالة في أفغانستان، فضلاً عن مشكلات هيكلية مجتمعية شاملة في الاتحاد السوفياتي، سبباً في انهياره وتفككه قبل انتهاء القرن الماضي، واستمرار الردع النووي من دون وجود مخاطر حقيقية من نشوب حرب عالمية مع تصدر واشنطن للمشهد الدولي بلا مقاومة تذكر من أحد، ولفترة تزيد على عقد من الزمان حتى وصلنا إلى المشهد الدولي الراهن.

انضمام أطراف جديدة

كما ذكرنا من قبل، لم يكتف العالم بالردع المتبادل لأن هذا الردع مرتبط أساساً بالحسابات الرشيدة، ومن ثم كان من الطبيعي أن يستمر قلق العالم من أن يتسبب قادة فقدوا العقل لسبب أو لآخر في حرب نووية يدفع ثمنها كل العالم. ولم تكتف الجهود الدولية على وضع ضوابط للتجارب النووية، في ضوء مخاطرها الكبيرة، بل نشأت حركة دولية واسعة لمحاولة حظر السلاح النووي كله، ومن ثم رأينا تنوعاً كبيراً في هذه الجهود للتعامل مع هذه المعضلة بمخاطرها الهائلة، وهي جهود لم تقتصر على الحظر الجزئي للتجارب النووية، وجهود أخرى للحظر الشامل، وثالثة لمنع الانتشار النووي، وطبعاً لم يمانع العالم في ازدواجية شارك فيها الخمس الكبار مع باقي العالم لكي لا ينتشر السلاح النووي. لكن البداية جاءت من الهند في السبعينيات التي أثارت بتفجيرها النووي الأول غضباً دولياً عارماً تسبب في انضمام باكستان لملكية السلاح النووي، ليغضب العالم أيضاً، وإن تقبل ذلك في ضوء العداء التاريخي بين البلدين لكي لا يندفع طرف إلى مغامرة نووية تكون كارثية.

كانت هناك أيضاً جنوب أفريقيا التي سبب امتلاكها هذا السلاح قلقاً دولياً واسعاً خلال مرحلة النظام العنصري، وأمكن التخلص منه بانهيار هذا النظام وقبول بريتوريا التخلي الطوعي عن هذا السلاح ضمن ترتيبات بناء الدولة الجديدة، وهو ما وصفه البعض بأن العالم المتقدم لا يريد أن يكون هذا السلاح بحوزة دولة جديدة من الجنوب، لم يكن المناضلون، وعلى رأسهم الزعيم المسالم مانديلا حريصاً على امتلاك سلاح يعارضه.

ثم كانت إسرائيل التي حصلت على السلاح النووي بمساعدة فرنسا والنظام العنصري الجنوب أفريقي السابق، وفي الواقع فإن الملف النووي الإسرائيلي أحد أكبر معضلات فشل العالم والمعايير المزدوجة الغربية والأميركية بشكل خاص، فعلى رغم أن التعامل معه يتم تحت اسم الغموض النووي بأكثر من المصارحة، فهو ليس محل شك، ويمثل الدليل الواضح على مدى عدم اتساق منظومة منع الانتشار النووي، حيث تركز واشنطن على ملفي كوريا الشمالية التي أصبحت نووية بالفعل، وإيران التي ما زالت في الطريق، وحيث الأزمة المستمرة لسنوات.

عموماً، تعد اتفاقية الحظر الشامل للسلاح النووي التي تم التوصل إليها عام 2017 قمة الجهود الدولية في هذا الصدد، والتي تم التوصل إليها بمعارضة الدول النووية وغالب الدول الغربية وللمفارقة وافقت عليها إيران التي تواجه معركة بهذا الصدد.

النظم السلطوية

ينظر العالم الغربي بشكل خاص بازدواجية واضحة في ملف الانتشار النووي ومخاطره، وهو ما يرجع إلى فرضية تمزج بين عوامل عدة منها العنصرية، ومنها الشك في النظم السلطوية، ومفادها أن هناك أطرافاً رشيدة ستراجع استخدام هذا السلاح المدمر، وأخرى لن تفعل هذا.

ومشكلة هذه الفرضية أن من استخدم هذا السلاح حتى الآن هو الولايات المتحدة وحدها، وفي حال لم تكن بحاجة إليه بخاصة بعد استسلام اليابان، ما يمس جوهر هذه الفرضيات الغربية بشكل عميق، إذ لم يهدد أحد بشكل حقيقي باستخدامه باستثناء كوريا الشمالية التي ترفض التخلي عنه صراحة، وتطرح مقولة أخرى مفادها أنه تمت إطاحة النظم المعادية للغرب في ليبيا والعراق، فضلاً عن محاولة أخرى في سوريا، لأن هذه الدول لا تملك الردع النووي.

بمعنى آخر، فإن مقولة الردع هنا تستخدمه لردع الآخر، وليس لمنع نشوب حرب إبادة. ووفقاً لمصادر إسرائيلية وغيرها يمثل هذا الخيار النووي أيضاً « خيار شمشون » في حال تهديد بقاء الدولة، حيث تؤكد الحسابات الرشيدة أن استخدامه قد تكون له عواقب وخيمة على إسرائيل ذاتها بسبب تركيبتها الجغرافية والديموغرافية.

من ناحية أخرى وأخيرة، يتفق أعضاء النادي النووي، ومعهم غالبية دول العالم على التخوف من هذا السلاح، وأنه ينبغي التعامل معه بحذر شديد، كما أن كثيرين يرون أنه سلاح يصعب استخدامه إلى حد أنه يتساوى في غالب الأحوال مع عدم وجوده، لكن المؤكد أيضاً أن التوترات إلى شهدها العالم أخيراً حول هذه المسألة ومع المنشآت النووية الأوكرانية تجعل من الضروري المراجعة العاجلة لانفلات هذا الملف في ظل عالم يتراجع فيه التفكير الرشيد بشكل لافت.

Laisser un commentaire

francais - anglais ..