×

ثورة جورج زريق بالنار

ثورة جورج زريق بالنار

Spread the love

جورج عبيد – مقالات مختارة – هل تتخيلون أيها المستكبرون والمستوون على الآرائك المخمليّة، المهووسون بالبطر والسكارى بالرأسمالية المتوحّشة، تفاعل طفلين مع مشهد أبيهما وهو يحرق جسده ويزهق روحه من أجلهما في ساحة مدرسة سميت على اسم العذراء مريم؟ إنّها ثورة من نار وصرخة من نار ستتحوّل إلى بركان متأجّج يحرق يباس قلوبكم وتصحّر نفوسكم وتصخّر عقولكم، يا أولاد الأفاعي يا فريسيي هذا القرن بوحشيتكم، أيها المدّعون الرسالة الإنجيلية في كلّ مكان ليرمي بكم في الجحيم. هل تتخيّلون أن طفلين استفاقا هذا الصباح، وأبوهما جثّة محترقة في برّاد المستشفى تنتظر المواراة في التراب، سيحتشد الناس في جنازته وقد يحضر المسببون بادّعاءات فارغة، وبعد الدفن يخلد الطفلان إلى غرفتيهما في سرّ ليل طويل ليتذكّرا مشهد والدهما يحرق نفسه في باحة المدرسة، لأن لا قدرة له على دفع الأقساط ولأن المدرسة رفضت أن تعطيه إفادة قبل استيفاء المال منه. أستحلفكم بالرب العليّ العظيم، لمَ والد يحرق نفسه ويضرم النار في جسده لو لم يواجه بفظاظة ويطرد بوقاحة؟ ستقولون للناس إنّه موتور، وبعضكم يعتبر انّه يتناول مهدّئات أعصاب، وقد يكون غرق في مشاكل عائليّة؟ سأصدقكم القول، وأزعم معكم ذلك. لكنّ الجوهر الذي لم تروه وتبصروه، أنّ هذا الوالد متعب بسبب الفاقة والعوز، بسبب جوعه للخبز والمحبّة، بسبب انتمائه الصادق لكنيسة مديدة رآها في عمل الرحمة والرضى، وبسبب وجوده في بلده تقاسمه الفاسدون وهيمنت على مؤسساته العامة والخاصّة أنظومة الفساد، فيما ثمّة إحصاءات تقول بأنّ مليون لبنانيّ وجورج واحد منهم قد رزحوا في الفقر. ألا يوجعكم أيها المسؤولون سياسيون كنتم أو روحييين إحصاء جارح كهذا لتهبّوا وتعملوا وتعمدوا على مكافحة الفاسدين والتجار المارقين، ألا يخضّكم ذلك ويدفعكم أيها المسؤولون في الدولة لمواجهة بطر مدراء المدارس المسمّاة دينيّة مسيحيّة وإسلاميّة، وهم قد جنوا الثروات على حساب الفقراء، ألا يدفعكم هذا المشهد ويحثّكم لكي تكفوا عن اقتسام مغانم الدولة وثرواتها وهي تخصّ اللبنانيين، فجورج زريق ليس وحيدًا فهناك كثر مثله ومثل البو عزيزي في تونس على استعداد لإشعال ثورة اجتماعية بأجسادهم المحترقة في شوارع بيروت وطرابلس وصيدا والنبعة، ثورة النار لا تعرف دينًا بل تعرف الكرامة وتريد أن تتحوّل إلى بركان متفجر بوجوه عفنة أكلت من مال اللبنانيين واغتنت على حسابهم، وهم الأرباب الفاسدون، المفترض أن يهترئوا في السجون، ولا يخرجون منها قبل تسديد ما عليهم لحساب هذا الشعب. جورج زريق جزء من كلّ، وجسده المحترق جرس إنذار. ما حدث البارحة كارثة إنسانية كبرى، وثورة بالنار عظمى، لا يفترض دفنها مع جسد جورج المحترق في وادي النسيان. وإذا ساغت المكاشفة، كيف ترضى المدارس المسيحيّة أرثوذكسية وكاثوليكيّة، بأن يهملوا الإنجيل لصالح المال وهم المؤتمنون على الرسالة الإنجيليّة، كيف يرضى المسؤولون عنهم بسلوكياتهم وتصرفاتهم؟ أليس التعليم حقّ لكل إنسان، فهل بات جزءًا من عالم الاستهلاك يعطى للأغنياء، فيما الفقراء أو غير الميسورين يرمون في مدارس رسمية قد لا تكون مؤهلة بالعمق الأكاديميّ للتعليم المجانيّ الذي يفترض ان يضاهي بجودته التعليم الخاص؟ يجدر بمدراء المدارس المسيحيّة أن يتذكّروا بأن التعليم حقّ إلهي لأنه مرتبط بالبشارة الإنجيليّة، وقد أعلمكم بولس الرسول قائلاً: « واظب نفسك والتعليم »، إنها مرتبطة بصورة الله في الإنسان، وصورة الله تترجم في المحبة، والمحبة مجانيّة كما قال الأب ألكسندر شميمن. كارثة البارحة تخدش جوهر إيماننا ورسالتنا. لا يحق لك أيها المدير أو أيتها المديرة، سواء كنت كاهنًا أو كنت راهية، سواء كنت مدنيًّا أو كنت مدنية، أن تتعاطى أو تتعاطي مع أب أو أمّ بهذه الفظاظة وتلك الوحشيّة، ولا شيء يستطيع تبرير فعل جورج لو لم يكن مخنوقًا للغاية ومغبونًا بحقّه ومجروحًا بكرامته. في مقال لي، رويت قصّة صديق ذهب إلى مدير المدرسة من بعد إنذار تلقاه منه لكي يدفع قسط ولده وإلاّ اضطر لطرده، والمدير كاهن للرب العليّ. ذهب الرجل إلى المدير-الكاهن يسترحمه فطرده من مكتبه وقال له بالحرف الواحد إن لم تدفع سأطرد ابنك. هذا كاهن يحمل جسد الرب ودمه ويدعو الناس إلى الوليمة الإلهية كما يدعوهم إلى المحبة وعمل الرحمة، فكيف يسمح لنفسه بان يتقاعس عن عمل الرحمة ويجافي الرسالة الإنجيليّة ويطرد أبًا من مكتبه ليخرج من لدنه دامعًا باكيًا ولله شاكيًا؟  ثم نسمع أصوات البطاركة والمطارنة تدعو إلى بقاء المسيحيين في لبنان ثمّ ينذرون بواقع لبنان المزري. هل يعلم أصحاب الغبطة والسيادة بأنّ مؤسساتنا المسيحية هي التي تهجّر المسيحيين وتسلخهم عن حقيقتهم الإنجيليّة وتبعدهم عن مسيحهم؟ ألا يكفي ما عاناه المسيحيون من اضطرابات في لبنان والمشرق، فلا نرحمهم في فقرهم ونكفكف الدموع عن عيونهم، ألم يدعكم يسوع لكي تكسروا خبز المحبة لهم وتحتضنوهم بالحب؟ من يخاطبكم في تلك العجالة ملتزم حتى العظم بالرسالة الإنجيلية، ملتزم بمحبة المسيح، لكنه ثائر على سلوكيات تستهلك الإنجيل لتعزيز سلطاتكم على حساب الناس وكراماتهم. من حقنا أن ننظر إلى الدولة كهيئة ناظمة وكيان ضابط، من حقّنا أن تؤمّن الدولة لمواطنيها الحماية والضمان والطبابة والتعليم على أجود ما يكون… لكن أيضًا من حقنا على المؤسسة الكنسية أن تؤمّن لنا بدورها السلام والتعويض عن غياب الدولة، فالكنيسة ليست الطغمة الكهنوتية أو الإكليريكية وما يتفرّع منها، الكنيسة هي الشعب المؤمن، على قاعدة أنّ الكنيسة نحن ونحن الكنيسة، مؤسساتها تخصّه ممتلكاتها له، من حقّه أن يتعلّم في مدرسة هو مالك فيها وليس لاجئًا أو نزيلاً أو زبونًا فيها، حتمًا لا يعفيه ذلك من أن يكون مساهمًا في تكوينها وترفيعها، الملك بطبيعته شراكة بين الجميع، لكن في وضع جورج كان يفترض بالمدرسة أن تدرك بأنه غير قادر على المساهمة، وأن تعامله كشريك وليس « كزبون ». كلّ مؤسسة سواء كانت أرثوذكسية أو كاثوليكية أو مارونية هي ملك شعبها المؤمن، خطأ بعض الأبرشيات أنها تكابر، وترفض الشراكة مع المؤمنين. كان لي أسقف صديق في كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك. وقد تولى أبرشية أساسيّة فيها. هذا الأسقف كان يدأب بصورة فصليّة على طبع كتيّب يكشف فيه للمؤمنين حساب أبرشيته من المدخول إلى المصروف. قلت له بمعرض الصداقة، حبّذا لو يتعلّم منك الأساقفة وبقومون بما تقوم به. أجابني لقد كلّفت شركة لتدقيق الحسابات، وهي تنكبّ على التدقيق في حساباتنا، فترسل إلينا التقرير النهائيّ، فأقوم مع المجلس الأبرشيّ بدرسه بتؤدة ونشره ليكون في متناول المؤمنين كلّ المؤمنين في كل الرعايا، وهذا حقّ المؤمن عليّ أن يعرف كيف نتصرّف. تقاعد المطران منذ سنوات ولم أعد أعرف إذا بقي هذا الأمر سائدًا.  كان هذا المطران يؤمن بأنّ مؤسسات الأبرشية عنده ملك المؤمنين وليست ملكًا له أو حكرًا على أثرياء كنيسته. آن الوقت لكي نفهم بأن بقاءنا في لبنان والمشرق منوط بتعزيز الشراكة الكاملة وإعادة الاعتبار لدور المؤمن في إحياء كنيسته، آن الوقت لنفهم بأن الفقراء سادة في كنيستنا، آن الوقت لنفهم بأن ثمّة آخرين كجورج زريق قد ييتّمون أولادهم بثورة النار. إنتبهوا يا سادة جسد جورج المحترق سيؤول إلى بركان سيحترق بوجوهكم وينفجر في عيونكم وداخل مكاتبكم فانتبهوا وأعيدوا الإنسانية إليكم أكرموا المواطن بإعادة حقوقه إليه ومكافحة الفاسدين وتطهير المؤسسات من أوساخهم وأدرانهم، ويا أيها الروحيون، أظهروا ان كنيسة المسيح بمؤسساتها هي جسده المقدّس وقد خدش بمظلومية جورج زريق وصرخة آخرين هم على مثاله، أعيدوا ينابيع المحبة إلى مؤسساتنا الناشفة والمتصحرة أحبوا الناس كلّ الناس وبخاصّة الفقراء منهم، إنهم المسيح الثائر بثورة النار والنور بوجه وجوه مظلمة

Laisser un commentaire

francais - anglais ..