النظام الطائفي متلفزا : الإعلام المرئي اللبناني سقط في اختبار الثورة
ندى حطيط – القدس العربي – مقالات مختارة – شهد لبنان – هذا البلد العربي الصغير مساحة، الكثير الجلبة بين أشقائه العرب – أحداثاً دراميّة متصاعدة خلال الأسبوعين الماضيين، بعد أن تسببت الأزمات الاقتصادية المتراكمة، التي أنتجها نظام المحاصصة الطائفيّة في إفقار قطاعات واسعة من المواطنين، مع تغييب شبه نهائي للدولة اللبنانيّة عن رعاية مواطنيها الأكثر عوزا والأضعف نتيجة شبكة معقدة من منظومات الفساد والزبائنيّة والتنفع اخترقت كافة أوجه النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي في المجتمع اللبناني.
لكن، كما كوب فاض منه الماء، بعدما وصل إلى أقصى حدود الاحتمال، أصاب الأهالي في المجتمع اللبناني وعبر طوائفه الدينية التقليديّة وطبقاته الاجتماعيّة مسّ من الغضب ليلة 17 من تشرين الأول/ أكتوبر، بعدما حاولت الحكومة استيفاء مزيد رسوم غير مبررة من المواطنين، فخرجوا في ردة فعل تلقائيّة – إلى حد كبير – هاتفين بإسقاط النظام، في مشهد مهيب ملأ قلوب اللبنانيين بالأمل من جديد، بعد كثير يأس من إمكان كسر نظام الأقفاص الاجتماعية الطائفيّ المتخلّف، نظام ما لبث جاثماً على صدورهم جميعاً لعقود، معيداً إنتاج نفسه عبر الحقب والمراحل وتقلبات الأزمنة
الإعلام اللبناني:النظام الطائفي متلفزاً
الذين يتابعون المشهد الإعلامي اللبناني عن بعد، لا سيّما المنصّات المرئيّة منه، والمعتاد معظمهم على غلبة الصوت الواحد واللون الواحد في إعلامهم المحليّ ينتهون عادة إلى الاعتقاد بوجود حيوية غير مسبوقة، وتنوع في الطرح، وتعددية في الآراء وتخمة بالنجوم في صناعة التلفزيونات اللبنانيّة على نحو يثير الإعجاب
لكن العارفين بدواخل وكواليس ذلك المشهد يُدركون أن تلك الصّورة الفاقعة ما هي إلا قشرة مخادعة لمنظومة مستلة بحرفيتها من النّظام الطائفي اللبناني بكل انحيازاته الاجتماعية والطبقيّة، وواجهة منخرطة بالكامل في الترويج لقيم النخبة الحاكمة وثقافتها وأخلاقياتها. فغالبية المؤسسات الإعلاميّة اللبنانيّة – ربما باستثناء تلفزيون لبنان الحكومي، الذي تتلاقى جميع الجهات الطائفيّة على إبقائه ضعيفاً وثانوياً – مملوكة من قبل جهات محسوبة على متنفذين من هذه الطائفة أو تلك، فتنطق، كما ببغاوات، بما يكرّس حصراً المصالح الآنيّة لتلك الجهات، دون أي التفات للمسؤوليّة الاجتماعيّة أو الأخلاقيات المهنيّة عند تعارضها مع هذه المصالح. وتلحق بمسألة الملكيّة الطائفيّة الطابع للقنوات التلفزيونيّة في لبنان عوامل أخرى تدفع بالإعلام لمزيد من الخضوع والتبعيّة، ومنها الضعف المزمن للنقابات المهنيّة، وغياب تشريعات العمل، التي قد تحمي العاملين فيه، والانعدام التام لأيّة مواثيق للشّرف المهني، كما تردي معايير الكفاءة والارتقاء، ناهيك بالطبع عن الجدران غير المرئيّة التي تجعل انتقال الإعلاميين من قناة إلى أخرى مهمة شبه مستحيلة، وإن حدثت فتكون عادة مقابل ثمن باهظ عزلا اجتماعياً من قبل الطائفة، وقليل تقبل من جمهور الطائفة الأخرى
إعلام الثورة: وهليحارب المرء نفسه؟
لحظة انطلاق شرارة غضب اللبنانيين – عبر الطوائف – بُعَيْد منتصف الشهر الماضي، سنحت الفرصة للإعلام المرئي اللبنانيّ لأن ينحاز لوطنه وللأكثرية من ناسه، ولو من خلال تبني سرديّات موضوعيّة – قدر الممكن بشرياً – عن الأحداث. ذلك كان سيمنح الإعلاميين اللبنانيين الفرصة للظهور المحترف عربياً وعالمياً، بينما الأعين مسلطة على بلادهم، ويكسبهم شيئاً من المصداقيّة الوطنيّة، بدلاً من الأرصدة الطائفيّة، التي بنوها عبر الأيّام، وينتزعوا شيئاً من استقلاليّة تنازلوا عنها دائماً لإرضاء مالك القناة والمستثمرين ومرجعيات الطائفة والطبقة. لكنهم – في معظمهم، ربما مع وجود استثناءات قليلة تكرّس القاعدة ولا تنفيها – وخلال أيّام قليلة، سقطوا سقوطاً مروعاً في هذا الاختبار التاريخي، فتخندقوا طائفياً وطبقياً ضد المجموعات الأخرى، وقدموا سلوكاً انفعاليا لا يليق بالمحترفين، ومارسوا على الهواء مباشرة تلفيقاً ولوياً للحقائق، ووضعوا أنفسهم في مكانة الملكيين أكثر من الملك نفسه، دفاعاً عن سادتهم، محاولين أحياناً لعب أدوار لا تليق بهم كقادة ومحرضين على أعمال تخريب أو قطع طرقات، مع سفور في العداوة تجاه الطوائف والطبقات الأخرى، وتحوّلت نشرات الأخبار المتلاحقة وساعات الهواء السخيّة إلى معامل إنتاج بروباغاندا مضللة وأنباء متعارضة، ساعدت الطبقة الحاكمة على امتصاص صدمة التحركات الأولى، ومن ثم تنفيذ هجوم مضاد لتوجيهها نحو مرافئ آمنة، لا تمس أسس المنظومة الطائفيّة الممسكة بخنّاق البلد الصغير الجميل. ولعله مما ساعد في تفاقم هذا السّقوط الإعلاميّ الكبير تواجد معظم هؤلاء الإعلاميين المكثّف على مواقع التواصل الاجتماعي، فكرّسوا أوقات فراغهم خارج الهواء المباشر لنشر المواقف المضللة والمتناقضة ذاتهاعمّا يجري، مع انحياز فاضح وشوارعي أحياناً لتلك الفئة من تحالف حكم الطوائف ضدّ بقيّة الطوائف
سقوط الإعلام: من يحمي المواطنين من عنف البروباغاندا؟
ربما لا تتوفر – ولن تتوفر في ظل الطائفيّة الشيطانية – تشريعات لبنانيّة لتجريم قيام الإعلام بأدوار تتضمن بروباغاندا سافرة تخدم أجندات أطراف سياسيّة تتجاوز حدود الصراع المقبولة في إطار الديمقراطيّة السياسيّة. ومع ذلك فإن العالم خطا في اتجاه وضع ضوابط لحماية المواطنين من العنف، الذي تلده مثل تلك المنتجات الإعلاميّة السامة. وقد حوكم بالفعل عاملون في الإعلام الراوندي مثلاً من قبل المحكمة الدوليّة للجرائم ضد الإنسانيّة في راوندا لدورهم المشين من خلال عملهم الإعلامي في خلق المناخات اللازمة للمذابح والقتل على الهويّة وتعذيب مواطني ذلك البلد الافريقي الحزين. وتعتبر بروتوكولات المجلس الأممي لحقوق الإنسان أن تلك السلوكيات الإعلاميّة المنحازة يمكن اعتبارها اعتداء على حقوق الإنسان، بما فيها الحق في الحياة، والتعبير، والحصول على المعلومات، والحماية من التمييز، وحريّة العمل الصحافي والإعلامي نفسه. ورغم أنّ الطريق للوصول إلى تشريعات حاسمة بهذا الخصوص ما زالت موضع أخذ ورد من قبل الدول الغربيّة الكبرى – التي توّظف البروباغاندا كجزء لا يتجزأ من عدة العمل الأمني والاستخباراتي والعسكري معاً – فإن الجميع مدرك اليوم لخطورة ترك الإعلام الجماهيري منفلتاً دون قيود لحماية المواطنين تجاه تغوّل أصحاب الأجندات وتابعيهم بإحسان من الإعلاميين. والجليّ أنّ التوافقات الدوليّة ستصل في وقت قريب إلى نوع من تجريم للمتورطين في إنتاج البروباغاندا التي تمارس التجهيل، وتخلق مناخات استقطابيّة وتحرّض على العنف والكراهيّة والتمييز
أخبار سيئة لمنتجي الأخبار في لبنان
بالطبع فإن التشريعات الأممية الحالية قد لا تكون كافية لتجريم فوريّ لبعض متعاطي الإعلام اللبناني عن تورطهم بالتحريض السافر والدفاع عن مصالح مالكيه ضد الأكثريّة. لكن الأمور بخواتيمها، وبالتأكيد فإن التطورات ستؤدي مستقبلاً إلى إمكان تعرّض الإعلاميين للمساءلة القانونية في جرائم لا تسقط بالأقدميّة. تلك أخبار سيئة لمنتجي البروباغاندا اللبنانيين. لكن الأكثر سوءا وبنتيجة سقوط منظومة الإعلام المرئي اللبناني في اختبار لحظة (الثّورة) على النظام الطائفي – سواء نجحت تلك الغضبة الشعبية النبيلة لكسر الأقفاص أم لم تنجح – فإن غالبيّة اللبنانيين اليوم صارت تعتبر تلفزيوناتها جزءا لا يتجزأ من منظومة الفساد، التي تنخر عظام لبنانهم، وأن الإعلاميين فيها ليسوا سوى دمى تتسابق لالتقاط الصور مع الفاسدين، وتلقي هداياهم وتشيكاتهم، وقرع الكؤوس معهم، على وليمة نّهب الوطن، دون وجل أو خجل. ماذا ينفع الإنسان لو نجا مؤقتاً من تشريعات العالم، وخسر احترام شعبه؟
Laisser un commentaire